Thursday 13 May 2010

العلمنة الإسلامية.. تنازل أم مرونة

العلمنة الإسلامية.. تنازل أم مرونة
د. رفيق حبيب

تظهر بين الحين والآخر، بعض الرؤى التي تحاول الدمج بين الرؤية الإسلامية والرؤية العلمانية، أو تقدم رؤية إسلامية تقبل ببعض الشروط العلمانية. وتبرر تلك الرؤى على قاعدة إظهار المرونة أو ترتيب الأولويات بصورة تناسب الواقع. وينتج عن ذلك أحيانا، رؤى إسلامية تلتزم بمعايير علمانية، مما يجعلها تمثل خليطا فكريا، أو محاولة للتوفيق بين العلمانية والإسلامية. وتؤدي بعض هذه الأفكار إلى مواقف مضادة لها، تميل للتشدد حتى لا تفتح الباب أمام الخلط بين العلمانية والإسلامية، وحتى تلغي أي احتمال للتوفيق بين العلمانية والإسلامية. وهنا تلتبس فكرة المرونة مع فكرة التكيف مع الظروف الراهنة، والخضوع للضغوط المفروضة على الحركة الإسلامية، سواء من السلطة الحاكمة أو النخب العلمانية أو القوى الغربية. مما يدفع للتمييز بين المرونة وترتيب الأولويات وبين التنازل عن جزء من المشروع أو جزء من ثوابته.

والمرونة تفترض محاولة تنفيذ الممكن والمتاح، قبل غير الممكن، وتحصيل ما يمكن تحصيله أولا، ثم تحصيل الأهداف الأخرى الأصعب بعد ذلك، مع تغير الظروف. والمرونة تفترض أيضا تمهيد الساحة لتحقيق الأهداف، والترتيب الجيد لكل تغيير مطلوب تحقيقه، وتمهيد الظروف. كما تفترض المرونة أحيانا، انتظار الظرف المناسب لتحقيق هدف ما، والعمل على تحقيق الظروف المناسبة لتحقيق الأهداف. كما تفترض المرونة البحث عن السبل الممكنة لتحقيق الأهداف، دون الإصرار على أساليب بعينها قد لا تكون متاحة، بشرط أن تكون السبل والطرق الجديدة، كافية لتحقيق الهدف، وبشرط أن تكون الوسائل مرتبطة بالقواعد الأساسية للغايات المطلوب تحقيقها. فالمرونة هي المنهج العملي في تحقيق الغايات، والذي يتيح تحقيق كل ما هو متاح وممكن، ثم التمهيد لإزالة العقبات التي تعترض بعض الأهداف، حتى يمكن تحقيقها في النهاية. وعليه تصبح المرونة، هي منهج في التطبيق، لا تغير الأهداف والمبادئ النهائية، ولكن تمثل نهجا للبحث عن أفضل السبل لتحقيق تلك الغايات. وأيضا تمثل المرونة نهجا لتحقيق الغايات بأقل خسائر، حتى لا ينتج عن محاولة تحقيق هدف ما، نتائج ضارة وأشد ضررا من الوضع قبل تحقيق الهدف المراد. وتشمل المرونة أيضا، ترتيب الأهداف والغايات تبعا للوضع القائم، بحيث يتم تنفيذ الأهداف التي لها أولوية قبل غيرها، والأهداف المتاحة قبل غيرها. ولكن كل هذا لا يغير في النهاية من طبيعة المشروع أو غاياته ومبادئه.

أما التوفيق بين مشروعين، فهو تغيير لطبيعة الرؤية والمشروع، وعملية لتكييف المشروع مع الواقع القائم، مما يؤدي إلى تغيير في طبيعة المشروع. كما أن ترحيل بعض الأهداف إلى أجل غير مسمى، أو اعتبار بعض الأهداف غير قابلة للتحقيق، فهو أيضا تغيير في جملة الغايات التي تميز مشروعا معينا. بجانب ذلك، فإن اعتبار بعض جوانب أو أسس مشروع معين بأنها أصبحت من الماضي، ولم تعد قابلة للتحقيق في الواقع الراهن أو في المستقبل، هو أيضا تغيير لغايات المشروع. فالذي يتغير مع الزمان وعبر المكان، هو منهج التطبيق وأساليبه وأدواته، ولكن الغايات العليا والمبادئ الأساسية، أي القيم العليا، لا تتغير.

ويمكن القول بأن أحد الغايات الأساسية للمشروع الإسلامي هي تحقيق الوحدة السياسية للأمة، ولكن هذا الهدف يصعب تحقيقه في المرحلة الراهنة، أو في المستقبل القريب. لذا فمن المتوقع أن تؤجل الحركات الإسلامية تحقيق هذا الهدف، لأن النظام الإسلامي لم يقم بعد في الدول العربية والإسلامية. ويصبح هدف تحقيق الوحدة السياسية للأمة مؤجلا، ولكنه ليس ملغيا. كما أن شكل وأدوات تحقيق تلك الوحدة تتغير عبر الزمان، لذا يمكن للحركات الإسلامية أن تجتهد في البحث عن الصيغة المناسبة لتحقيق الوحدة السياسية للأمة الإسلامية، لكن دون أن تعتبر هذا الهدف غير قابل للتحقيق أساسا. فقد تتحقق الوحدة في صورة اتحاد للدول الإسلامية، أو فيدرالية إسلامية، أو دولة إسلامية، وقد تتحقق الوحدة عبر العديد من المراحل، والتي تأخذ شكلا تدريجيا، حتى تتحقق الوحدة السياسية في النهاية.

فوحدة الأمة الإسلامية هي غاية أساسية في المشروع الإسلامي، وجزء من طبيعة وأسس المرجعية الحضارية الإسلامية، ولكن يمكن تأجيل هذا الهدف، ويمكن البحث عن سبل متنوعة لتحقيقه، أما إلغاء هذا الهدف أو تأجيله لأجل غير مسمى، واعتباره حلما قد لا يتحقق، فهذا تغيير في طبيعة المشروع الإسلامي نفسه. وهنا يتجاوز الأمر حدود المرونة، ويدخل في نطاق التنازل. وبنفس هذا المعنى، يمكن العمل على بناء دولة إسلامية في قطر معين، باعتبار أن هذا هو الممكن والمتاح، ولكن بناء دولة إسلامية قطرية يعتبر مرحلة من مراحل بناء الوحدة الإسلامية، ولكن إذا أعتبر أن بناء دولة إسلامية قطرية هو نهاية المشروع، وأن هدف الوحدة السياسية لم يعد متاحا، هنا يحدث تغيير جوهري في المشروع. وبالمثل، يمكن القول بأن قبول الدولة القومية القطرية بوصفها الشكل الوحيد الذي يمكن تحقيقه، ثم بناء دول قومية قطرية، تضع المبادئ الإسلامية في اعتبارها، يمثل تنازلا عن جوهر مهم للفكرة الإسلامية، وهي أنها فكرة عابرة للقومية، وليست فكرة قومية.

وتغيير ترتيب الأولويات، ووضع الخطط العملية، لا يمنع من تحديد الغايات العليا، فإخفاء الغايات العليا والمبادئ العامة للمشروع الإسلامي، وهي معروفة، ليس من باب المرونة، ولكن من باب المراوغة، وكأنه محاولة لخداع النخب العلمانية أو خداع الغرب، ومن يبدأ بإخفاء أهداف المشروع الإسلامي، وهي كما قلنا معروفة، يطلب منه إثبات صدق نواياه، ويتعرض للضغوط، التي تدفعه في النهاية للتنازل عن ما أخفاه، فينتقل من خانة المرونة إلى خانة التنازل.

فهناك فارق بين المرونة في التطبيق وهي مطلوبة في كل الأحوال، وبين التنازل الذي يؤدي إلى تغيير طبيعة المشروع. لذا فالتوجهات التي تحاول التوفيق بين العلمانية والإسلامية، لا تقدم مرونة تطبيقية، بقدر ما تغير من طبيعة المشروع الإسلامي، حتى يتكيف مع النظام العلماني المفروض على الدول العربية والإسلامية، وحتى يتم قبول وصولها للسلطة.